المحتويات

دور القاضي في تحقيق التوازن العقدي

 دور القاضي في تحقيق التوازن العقدي

   


    بالرجوع إلى الفصل 230 ق ل ع نجده ينص على أن الالتزامات التعاقدية المنشأة على و جه صحيح تقوم مقام القانوني بالنسبة إلى منشئيها، و يعتبر هذا المبدأ المكرس في المادة 1134 مدني فرنسي جوهر النظرية التقليدية التي أخذ بها القانون المغربين حيث إن العقد الذي يربط بين إرادتين أو أكثر، لا يمكن أن يكون إلا عادلا، فكل ما هو عقدي هو عادل، و مرجع هذا التقدير هي إرادة المتعاقدين وحدها، و لا يمكن تقديرها بمعيار موضوعي أو عن طريق أي شخص عنهما، و لو كان يمثل السلطة القضائية، فكل من دخل في علاقة بإرادة واعية وحرة لا يستطيع أن يتخلى عنا التزم به.

    و قد كان هذا مقبولا في ظل مجتمع زراعي بسيط، محدود من ناحية التقدم التكنولوجي، و بالتالي لم يثر إشكالا في بداية وضع مدونة نابليون، ما دام أن الصورة التقليدية للتعاقد تعتمد على المفاوضة و المساومة التعاقدية، حيث يتاح لأطراف العقد مناقشة شروطه و التفاوض بشأنها.

    و كان يكفي المتعاقد أن يتمسك بإحدى عيوب الرضا المحددة بالنص القانوني، لرد الاعتبار إلى العقد وجعله متزنا بين أطرافه.

    لكن التحولات الاقتصادية و الاجتماعية، التي ازدادت حدتها منذ بداية القرن العشرين، الذي ميزته ثورة في إنتاج السلع و الخدمات، يشوبها التعقيد و الغموض بسبب المؤثرات و الأساليب العديدة التي يلجأ إليها المهنيون، مما تثار معه مسألة حرية رضاء المستهلكين، كما أن التعقيد لم يقتصر على ذلك، و إنما تعداه إلى ما يمكن أن يصيبه ممن أضرار أثناء استعماله للشيء محل التعاقد الذي قد ينطوي على خطورة تهدد سلامته في وقت لم يكن ليقبله لو علم بذلك مسبقا.

    وقد صاحب هذه التحولات السرعة في إبرام المعاملات، مما فرض على المهنيين، اللجوء إلى تقنية العقود النموذجية، و التي أصبحت تستخدم لتمرير العديد من الشروط التعسفية تخل بالتوازن العقدي.

    كل ذلك أثر على التوازن الذي كان مفترضا بين أطراف العقد، حيث انعكس بالأساس على العلاقات التعاقدية التي تربط المهنيين بالمستهلكين بشكل خاص، مما ترتب عنه هيمنة الفريق الأول لاحتكاره الخبرة و المعرفة في مجال التعاقد.

    في ظل هذا كله، هل لازالت الأفكار التقليدية، القائلة بأن القاضي لا يعرف سوى قاعدة واحدة هي احترام قدسية العقد، و أن بمقدور المشرع أن يتدخل عند الحاجة حتى لا نترك القاضي ينفعل بأحاسيس مبهمة تكون مدعاة لسلطة تحكمية في هذه الدائرة المرنة.

    أم أن الأمر لم يعد كذلك، في ظل هذه الاختلال، و يكون "اهرنج" صادقا منذ زمن، حينما كتب معلقا على المادة 1134 مدني فرنسي  "القول بأن اتفاق الإرادتين يكون بالضرورة عادلا، معناه إعطاء رخصة صيد للقراصنة و رجال العصابات، مع منحهم الحق في أخذ ما تقع عليه أيديهم"[1].

    إن هذه التطورات التي لحقت الميادين الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، و ما صاحبها من تطورات في العلاقات القانونية أدت بالنصوص التشريعية إلى العجز عن ملاحقة هذه التغيرات، و بالتالي خلق بون شاسع بين النص و الممارسة.

    و هو ما شعر به القضاء مؤخرا، فاتخذ من المبادئ العامة الواردة في القانون المدني وسيلة لتحقيق التوازن العقدي، سواء من خلال مؤسسة التفسير، التي جعل منها أداة للوقوف بجانب الطرف الضعيف، أو من خلال التوسع في فهم العديد من النصوص القانونية المتفرقة للوصول إلى نفس الغاية.

    بل إن التشريعات الحديثة وضعت العديد من النصوص الخاصة، كقوانين حماية المستهلكين و الحد من الشروط التعسفية و الجزائية، تخول من خلالها للقاضي سلطة إقرار التوازن العقدي.

    و هذا هو السبب الذي دفعنا إلى اختيار هذا الموضوع، لملامسة الإشكالية التالية:

    إذا كان هناك إجماع على تكريس قانون الالتزامان و العقود المغربي، لمبدأ سلطان الإرادة كما أراده واضعوه، و بالتالي هناك عجز في نصوصه عن مواكبة التطورات التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين بالأساس، فهل استطاع القضاء أن يتجاوز هذا القصور، و من ثم المساهمة في تحقيق توازن بين أطراف العلاقة التعاقدية.

    ذلك ما سنعالجه في هذا البحث المشتمل على فصلين، نتناول في الأول منه دور القاضي في تحقيق التوازن العقدي من خلال مؤسسة التفسير، و في الثاني سبل مواجهة القاضي للشروط التعسفية.

    و قبل ذلك نمهد للموضوع بفصل تمهيدي نتطرق فيه لعجز نظرية عيوب الرضا في ثوبها الكلاسيكي في إعادة التوازن للعقد.


   للإطلاع على البحث كاملا يرجى تحميله بالضغط هنا pdf.



[1]  راجع هذه العبارة عند: نبيل إبراهيم سعد: نحو قانون خاص بالإئتمان، منشاة المعارف، الايكندرية، طبعة 1991، ص: 187.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-